كتبه/ ياسر برهامي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقضية شائكة ومصيرية لأمتنا؛ كيفية اختيار الرئيس القادم، وما هي أهم المعايير التي لا بد أن نزن بها مَن نختاره رئيسًا لنا، ليس فقط مِن جانب المُطلَق؛ فإن صفات الإمام محددة عند أهل العلم، ولكن مِن جانب النسبي لواقعنا، وموازين القوى داخليًا وإقليميًا وعالميًا، وبالنسبة أيضًا للمتاح الممكن المقدور عليه، وبالنسبة لمتطلبات المجتمع وإمكانياته، ومراعاة لاتجاهات القوى المتباينة، وأحيانًا المتصارعة.
كل ذلك مع لزوم التوكل على الله -تعالى- والثقة به، وكمال اللجوء إليه أن يلهم الأمة رشدها لاختيار الأمثل لحالها؛ حتى ولو لم يكن الأفضل، كما أن الحسن -رضي الله عنه- كان بالتأكيد أفضل من معاوية -رضي الله عنه-؛ فهو من المبشرين بالجنة، وهو سبط النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان معه بعد البيعة له كتائب كأمثال الجبال، ومع كل ذلك كان تنازله لمعاوية -رضي الله عنه- الذي هو من مسلمة الفتح، وهو دونه في الفضل - هو المناسب للأمة في ظروفها الصعبة بعد معارك طاحنة، وفتنة خطيرة؛ ولذا مدحه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (رواه البخاري).
وبعد هذه المقدمة نشرع في بيان بعض ما نريده في الرئيس القادم:
أولاً: نريد رئيسًا مؤمنًا بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، يخاف الله ويتقيه، ويخشى عذاب الآخرة؛ لأن مَن لم يراقب الله في أمة مثل مصر؛ لم يقم بمسئوليتها أبدًا.
" نريد رئيسًا يَكره الرئاسة ويُكره عليها، لا يطلبها ولا يفرح بها؛ لأن حمل عبء البلاء في هذه المرحلة الحساسة في غاية الصعوبة " |
ثانيًا: نريد رئيسًا يَكره الرئاسة ويُكره عليها، لا يطلبها ولا يفرح بها؛ لأن حمل عبء البلاء في هذه المرحلة الحساسة في غاية الصعوبة، بل هي أقرب إلى الاستحالة؛ إلا أن يوفقه الله -تعالى- ويعينه عليها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) (متفق عليه).
ثالثًا: نريد رئيسًا تَربى على الشورى وعدم الاستبداد، وتعوَّد على الرجوع لأهل العلم والخبرة، وعنده ثقافة ترك رأيه لرأي غيره إذا أظهرت ذلك الشورى، فقول الله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، لا بد أن يكون صفة لازمة؛ ولأنها أمر لا يكتسب بالقرارات والإعلانات والحديث الإعلامي، فلا بد أن يكون قد جرى في هذا الأمر؛ فليس زمننا أبدًا بزمن الديكتاتور العادل -كما يسمونه!-.
رابعًا: نريد رئيسًا يقدِّر الأمور حق قدرها قبل أن يتخذ قراره، ويعرف أن يتحمل مسئولية 87 مليون إنسان، يتحمل مسئولية دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وسائر مصالح دينهم ودنياهم؛ فلا يصح أبدًا أن يجعل الجبل سهلاً، والبحر يبسًا، ولا بد أن يقدِّر قوته وقوة مخالفيه، وقوة أعدائه وأعداء أمته؛ فلا يتهور في اتخاذ قراراته، ولا يجبن عن اتخاذ الموقف المناسب الذي لا تحتمل المصلحة غيره مهما كانت نتائجه، مع التوكل على الله والاستعانة به (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ... ) (الأنفال:65)؛ فلزم التقدير المذكور.
خامسًا: نريد رئيسًا يحسن اختيار فريق عمله مِن الكفاءات الحقيقية التي درس إمكانياتها فعلاً، ولا يختار مَن هو معجب به؛ ليضمن متابعته لقراراته بالتقليد الأعمى، فإن حبك للشيء يعمي ويصم، ولا يختار مَن هو أضعف منه؛ ليتميز هو بالتفوق والإبهار، كما كان يفعل الرئيس المخلوع!
وإن بطانة أي ملك أو رئيس هي مِن أعظم أسباب نجاحه أو فشله، وأمة مثل مصر لا يقوم بها -قطعًا- فرد واحد، ولا حتى فريق عمل، بل ولا حتى جماعة كاملة التنظيم، بل لا بد مِن تضافر كل الجماعات والجهود والأفراد، فلا بد من استيعاب الكل.
لا يصلح أبدًا مَن لا يحسن وزن الشخصيات التي يواجهها أو يختارها دون بحث...
سادسًا: نريد رئيسًا رءوفًا رحيمًا، يَشعر بآلام الناس ويقدر معاناتهم، حريصًا على مصالحهم، يتأسى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله -عز وجل- عنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة:128).
فلا يصلح مَن لا يعبأ بمشاكل الناس، ولا ينزعج لجزع جائع، أو لعري عارٍ، ولا لخوف مضطرب.
لا يصلح مَن لا يستشعر مسئولية عن أي دم يسفك بغير بحق، أو مال يهدر في غير وجهه؛ عامًّا أو خاصًّا، أو عرض ينتهك، أو بشرة تضرب، أو صحة تضيع، أو عقل يفسد، أو أخلاق تُدمر.
لا بد للرئيس أن يكون منحازًا للضعفاء "الضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له"، لا يرده شرف الشريف عن أخد الحق منه.
إن مِن أعظم تراكم الغضب في قلوب أبناء شعبنا على "الرئيس المخلوع" القسوة والغفلة في التعامل مع آلام الأمة ومشاكلها، نعم قد يحتاج القائد أن يتخذ قرارات مؤلمة، وأن يتبنى مواقف فيها تضحيات، لكن لا بد أن يكون ضمن المتألمين المضحين؛ ليخفف المعاناة ما أمكنه، فمن وجد ألم الجوع لم يستهن يومًا بجوع الناس، ومَن ذاق مرارة الحبس والسجن فلن يطمئن له بال وفي سجون بلده رجل مظلوم.
" من وجد ألم الجوع لم يستهن يومًا بجوع الناس، ومَن ذاق مرارة الحبس والسجن فلن يطمئن له بال وفي سجون بلده رجل مظلوم " |
سابعًا: نريد رئيسًا متواضعًا منكسرًا لله -عز وجل-، لا يتكبر على الناس خوفًا من الله -عز وجل-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) (رواه مسلم)، وقد دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا في عشرة آلاف من أصحابه، وإن رأسه يكاد أن يمس عنق راحلته؛ تواضعًا لله!
نريد رئيسًا لا يسعى لمدح المادحين، ولا يأسر قلبه ثناء المعجبين، فضلاً أن يسخِّر مَن حوله لذكر مآثره وإمكاناته الهائلة التي تَفرد بها عن الخلق، بل يحثو في وجوه المادحين التراب.
ثامنًا: نريد رئيسًا يقبل النقد البناء، والنصح الصادق، ويفرح به ويشجع عليه، ومَن لا يستطيع أن يُخرج مِن أتباعه وأعوانه مَن يعترض عليه ويناقشه بكل حرية -مع الأدب بلا شك- ويصرِّح له أنه قد أخطأ في كذا وكذا، مَن لا يستطيع ذلك؛ فلا يكون قائدًا ناجحًا.
تاسعًا: نريد رئيسًا إذا حدَّث صدق، وإذا وعد وفى، وإذا أؤتمن أدى، وإذا خاصم عدل مع خصومه، كما يعدل مع أحبائه، حكيمًا في غير جبن، حاسمًا في غير تهور، رجّاعًا إلى الحق، مشاورًا لأهل العلم، ينزل على رأيهم ويستجيب لتوجيهاتهم، بل يكون حريصًا على أن يكون منهم مشاركًا لهم في طلبهم، صادقًا في تعظيم حرمات الله، غيورًا على الدين، يجعل أول مقاصده إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين.
لا يوالي الكفار والمنافقين، ليس بغافل عن كيدهم، وفي نفس الوقت لا يبني حكمه على الظن والاحتمال؛ فإن الظن أكذب الحديث، فلا بد أن يفرق بين المعلومة والاستنتاج، وبين اليقين والاحتمال، لا يسوي بين المختلفين، ولا يفرق بين المتساويين.
عاشرًا: نريد رئيسًا مصليًا، صائمًا، قائمًا قارئًا للقرآن، يفزع إلى الصلاة والدعاء عند الأزمات.
سيقول البعض: كأنك تريد نبيًّا!
أقول: بل نريد رجلاً يعمل بعمل الأنبياء ويقتفي أثرهم؛ فإن تاريخ أمتنا يُكتب في هذه الأيام، ونحن نرى ليلاً يوشك أن ينجلي، وشمسًا توشك أن تشرق، وصبحًا يوشك أن يسفر، ولن يتحقق ذلك بشخصيات عادية، بل بمَن يسير على طريق الأنبياء؛ فليست الخلافة على منهاج النبوة بالأمر الهين.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت بجريدة "الفتح" بتاريخ الجمعة 2 ربيع الآخر 1433هـ - 24 فبراير 2012م.
No comments:
Post a Comment